
وصلت مدينة غوا هاربًا من أجواء بنغالور المكتظة بالسكان وضجيج أبواق السيارات والدراجات النارية. وصلتها وحيدًا، أخرس بلا لغة، وكأنني قردٌ هارب من الغابة. كانت هذه التجربة ممتعة ومتعبة في آنٍ واحد. ممتعة بروعة طبيعة هذه المدينة الهندية المتناثرة على ضفاف بحر العرب، وهذا ما منحني الهدوء والراحة النفسية. وبالمقابل، واجهت متاعب في التواصل مع الآخرين. لذا لجأت إلى لغة الإشارة، وأحيانًا استعنت بترجمة جوجل لتوضيح طلباتي. كان الأمر متعبًا بالنسبة لي وللآخرين، لتطردني موظفة الفندق، يأسًا من فهم مطالبي. أشارت باتجاه الباب وهي تتحدث الإنجليزية، ومن ملامحها فهمت أنها تقول ما معناه بالعربية الفصحى “تفضل، من غير مطرود”، ولكنني لم أستسلم لرعونتها.
جلستُ على كرسي الانتظار، وفتحتُ التطبيقَ وحجزتُ “أون لاين” في نفس الفندق، ثم عدتُ إليها برقم تأكيد الحجز. وما كان أمامها إلا أن تذعن وتُسلمْني كرت الغرفة بنظراتٍ منكسرةٍ وملامح خجل. تناولته منها وصعدتُ إلى الغرفة محبطًا، مدركًا تمامًا أنني متخلفٌ بمقياس هذا العالم الحديث الذي أصبح يتحدث الإنجليزيةَ ويسخر ممن لا يجيدها. حينها تذكرتُ خطبةَ الهندي الأحمر الأخيرة وهو يقول: “نحن نعرفُ أننا إذا لم نبعه بلادنا، فسوف يأتي إلينا الرجل الأبيضُ مدججًا بسلاحه وينتزعها. فكيف نستطيع أن نبيعَ أو نشتريَ السماءَ ودفء الأرض؟”. وعلى ما يبدو أن هناك خطبًا أخرى قادمة للغاتٍ كثيرةٍ ستندثر أمام هذا المدّ الإنجليزي الذي يُقابَل بهوسٍ اعتناقه من الشعوب الأخرى، التي ربما يجد أفرادها أنفسهم يوما ما غرباء في بلدانهم، أشبه بذلك الهندي الأحمر الذي يعوي في شوارع واشنطن كالذئب الجريح دون أن يفهم المتفرجون ما يعنيه.
بعد استراحةٍ قصيرةٍ، غادرتُ الفندقَ متجولًا في شوارع المدينة. وبأحد الأزقة، قابلتُ موكبًا لمجموعةٍ كبيرةٍ ملطخة أجسادهم بالألوان، يرددون هتافاتٍ ويقرعون طبولًا، على ما يبدو أنها ممارسةٌ لطقوسٍ دينية.
رغم هوسي بالتصوير لكل شيء أقابله، إلا أنني أمام هذا الحشد لم أجرؤ على رفع هاتفي خوفًا من الوقوع في المحظور. أمام هذا المشهد، شعرت بالدهشة والخوف معًا، وبقيت أراقب من بعيد، مدركًا أن القطيع البشري، عندما تلتحم عقول أفراده وأفكارهم وهتافاتهم، سواء كانت بممارسة طقوس دينية أو ثورية أو أي أيديولوجيا، إن عكّرت مزاجه سيدهسك. فالقطعان البشرية المؤدلجة أشبه بدبابة عمياء لا تشعر ولا تتأسف حين تدوس جنازيرها أجساد الضحايا.
وجدتُ في غوا مدينة ساحرة، لك أن تحدد ما تريد منها، ولديها كل شيء لتمنحه لك. إن كنت من محبي الهدوء والعزلة، فيها شواطئ مخصصة لهذا الغرض، وإن كنت من محبي الأجواء الصاخبة، فهناك شواطئ مليئة بالصخب والحياة والموسيقى والرقص. مدينة عبارة عن تجمعات سكنية متفرقة، غارقة في الغابات ومتكئة على البحر. تجذبك غاباتها وطبيعتها الساحرة، وأيضًا يوجد في بحرها ما يغريك.
هي ليست تلك المدينة العصرية التي تبهرك مبانيها، ولكنها مدينة لها خصوصيتها، يتداخل فيها الماضي بالحاضر، والبحر مع الغابات، ويتعايش فيها الغرباء مع السكان الأصليين، والأديان والثقافات المختلفة مع بعضها. مدينة من خلال حصونها وكنائسها المغروسة بخاصرتها كالخناجر، تسافر بك عبر الزمن لتكتشف معها عصر فتوة البرتغاليين المدفون في ذاكرة التاريخ، وتتوغل بك أكثر فأكثر وأنت ترى أمامك المعابد وطقوس الهنود وثقافاتهم المتنوعة.
بإحدى جولاتي، أثناء البحث عن مطعم يمني على خرائط جوجل، لفت انتباهي تسمية عاصمة الولاية “باناجي”، فقلت مع نفسي: أخيرًا عثرت على أثر يقودني إلى عصر فتوة العروبة! ولكن سرعان ما بدد جوجل هذا الاعتقاد الخاطئ، وأخبرني أن التسمية مصدرها برتغالي وتعني “أرض لا تغمرها الفيضانات”، نظرًا لموقعها المرتفع على ضفاف نهر ماندوفي. لا مطعم يمني إذن، ولا وجود للعرب غير مسمى البحر.
كل شيء في هذه الرحلة كان فرصة للخروج عن المألوف، وتجربة أشياء جديدة ومأكولات جديدة. وأجمل ما فيها أنني أدركت خطورة فقدان اللغة. أنا أعيش في بلد عربي أحضر شبه يوميًا اجتماعات ولقاءات بالإنجليزية – تُعاد ترجمتها لي – وأيضًا أصبحت الأولوية في التوظيف والترقيات لمتحدّثي الإنجليزية. ولا أستبعد ن تتغير شروط دور النشر والمجلات والوسائل الإعلامية مواكبةً لمتطلبات السوق. وكلما وجدتُ نفسي بمأزق مثل هذا، أتساءل: هل هي مشكلتي أنا أم مشكلة العربية نفسها؟