كتب/د. لمياء الكندي
مرحلة المصالحة مع قوى الإمامة 1970 وما تلاها
يرى البردوني ان ثورة سبتمبر بما حملته من مبادئ وقيم عن طريق حكم الشعب نفسه بنفسه، كانت أي الثورة أول تجربة في مكان لم يجرب فيه الحكم الشعبي، ولم يستعد للاحتمالات، فقد انقسم الشعب بعد شهور إلى معسكرين ثوري يدعم التوجه الجديد، وملكي يحاول استرجاع حكم الأمس.
ويرى البردوني ان السلام التصالحي الناتج عن تشابك المصالح السياسية في 1969م، جاء كبديلا عن النصر، واعتبر البردوني ان ذلك السلام المفروض على الشعب يشكل حرب أخرى غير دموية، ويتحدث البردوني عن هذه الفترة بانها شكلت تباعداً في الفهم والوعي الرسمي تجاه الشعب الذي كان شديد الحساسية من التغيير، فقد انعكست النظرة الرسمية للمسؤولين تجاه الشعب سلبا وهو ما اثر على مسيرته نحو التغيير ومسيرة كحومته الموقرة.
فكما تردد في الخمسينات تهمة الشعب بالجهل وبالعجز، ترددت في الستينات تهمة الشعب بانه مرتزق وعميل، أما في السبعينات فقد اتهم الشعب بالفوضوية ومخالفة النظام، حتى تكرست مثل هذه الآراء السلبية في وسم الشعب بها، في حين يرى البردوني ان شعبنا كان ولا يزال شعب عظيم، ويمكنه ان يتجاوب مع من يُمكنه تحقيق مصالحه، وكل ما يدل على تمرده أو فوضويته، يدل على سوء الزعامة.
لم تنُم قصائد البردوني بعد مرور عشر سنوات من الثورة والحرب وما تلاها من المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين، وانقلاب خمسة نوفمبر 1967م ،على قائد الثورة عبدالله السلال بنوع من التصالح أو الرضى البردوني عن مجمل الأحداث.
فكان لتراجع الخط الثوري الجمهوري في هذه القوى التي تشكلت من خلالها وجه اليمن في السبعينات، اثره في موقف البردوني الشعري الذي احتوى ولخص موقفه من مجمل الأحداث من بداية السبعينات وما تلاها، ونلاحظ هذه اللغة البائسة والمتحدية من قصائد البردوني شديدة البروز و في قصيدة “صنعاء الزمان والمكان”، التي كتبها في يوليو 1970م يقول:
صنعاء من أين الطرق
إلى الرجوع أو العبورِ
ماذا ترين اتستبيحين؟
اتعبرين بلا جسورِ
كان اتفاق المصالحة مع الملكيين بمثابة اقوى الطعنات الجمهورية على جسد الثورة، حتى وان حاولت تلك الأيادي معالجة الجرح النزاف ذاك، وترميم تشوهاته، ولكنه ظل جرحا عميقا وله اثره فهو يرى فيما انتهجته الأوضاع السياسية والفكرية والاجتماعية بعد سنوات الحرب مضيا إلى المصالحة بانها سياسات ومواقف تمثل عودة للإمامة، وتعد قصيدة “تقرير”، التي كتبها في 1971م، اقوى رد شعري له عن الأوضاع الراهنة آن ذاك ومآلاها:
حيثُ كنا كما ارد الامامُ
كل دعوى منا علينا اتهامُ
غير إنا وبعد تسعٍ طوال
حيثُ كنا كأنما مر عامُ
شكلت قصائد البردوني ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، ومذكراته فيما بعد محورا في حديثة عن حالة من التهاوي في مشروع الثورة، وحمل قادة الشعب مسؤولية هذا التهاوي والتراجع عن الخط الثوري، بحكم اختلاف جيل قادة سبتمبر عن جيل ما بعدها، وهو ما اوجد لديهم بعداً بالحس الثوري، فالجيل الأول من سبتمبر خرج من رحم المعاناة الإمامية، وكان مدركا لكونها قوة غاشمة وظلامية، لذا ثار عليها وحاربها، وما تلاهم من القادة ينتمون لجيل سمع عن معاناة الآباء والأجداد ولكنه لم يشاهدها ولم يعيش مرارتها، فكان رده الثوري متراجعاً عن خطى الثورة.
وعرفنا من العمالات صنفاً
كان اطرى ما احدث ( العمُ سامُ)
حيث كُنا لكن…. لماذا أضعنا
من التعادي سبعاً، وفيما كان الخصامُ
وانا أقراء في موقف البردوني هذا وتساؤله من الحرب، وجدواها طالما أنها لم تنتج واقع ثوري جديد ومخالف، تستثيرني تساؤلات مرعبة: هل يمكن ان يُعاد هذا المشهد التاريخي من الثورة والمصالحة مع قوى الإمامة اليوم وحوثتها؟
انه تساؤل مرعب نتمنى ان نلقى أجابته الحاسمة بفعل ورد تاريخي يرد لنا ولثورتنا وجمهوريتنا شرف النصر الكامل.
وبالعودة إلى البردوني وقصائده نجد وصفه اللاذع لرجال ثورة سبتمبر ممن تخلو على شعار الجمهورية أو الموت ليخاطبهم بقولة:
والأباة الذين بالأمس ثاروا
ايقظوا حولنا الذئاب وناموا
……..
ربما احسنوا البدايات
هل يحسنون كيف ساء الختامُ
ولم يكف البردوني على وصف صنعاء في تلك الفترة بالموت، ففي اكثر من لغة، ومن قصيدة كان ينعي صنعاء المدينة، وصنعاء الثورة، وصنعاء الحلم والجمهورية، وفي قصيدة “صنعاء الميلاد والموت”، التي كتبها في ابريل 1970م يقول:
ولدت صنعاء بسبتمبر
كي تلقى الموت بنوفمبر
لكن كي تولد ثانية
في مايو او اكتوبر
……….
هل تدري صنعاء االصرعى
كيف انطفأت؟ ومتى تنشر؟
كالمشمش ماتت واقفةً
لتعيد الميلاد الاخضر
الى قوله : وتظل تموت لكي تحيا
وتموت لكي تحيا اكثر.
كان نزيف البردوني الشاعر بالثورة يستمد قوته من إيمانه المطلق بكل قيمها وناقدا اعلى لكل رجالها الذين تراجعوا تحت ظروف خاصة عن الخط الثوري، ففي قصيدته “من منفى إلى منفى”، المؤرخة في نوفمبر 1971م، نراه ينتقد السلطة ويصور أعمالها بانها أعمالا موروثة من العهد الامامي وحركة الاستعمار، وبعيدة كل البعد من سبتمبر الثورة:
بلادي من يد طاغِ
إلى اطغى إلى اجفى
ومن سجنٍ إلى سجنٍ
ومن منفى إلى منفى
ومن مستعمرٍ بادِ
إلى مستعمرٍ اخفى
……..
بلادي في كهوف الموت
لا تفنى ولا تشفى
تنقر في القبور الخرس
من ميلادها الاصفى
ومن زخم هذا الواقع المرير من تاريخ الثورة يجدد البردوني مطالبته لصنعاء كونها ام البلاد بالثورة على الأوضاع المستجدة .
صنعاء يا اخت القبورِ
ثوري فانك لم تثوري
حاولتِ ان تتقيأي
في ليلةٍ عفن العصورِ
وفي قصيدته “مدينة بلا وجه” ،يناير 1971م، نراها يكرر نفس الصيغة الشعرية والموقف الشعري لواقع الحال الذي يظهر معاناة شاعر وشعب مما تمر به بلاده.
اتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري؟
تموتين في شعبٍ يموت ولا يدري
تموتين، لكن كل يومٍ وبعدما
تموتين تستحيين من موتكِ المزري
وتعتبر اغلب قصائد البردوني التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي تشكيلا شعريا ولغويا حادا انتقد من خلالها أوجه الاتفاق والخلاف السياسي، الذي انتج فيما يراه تراجعا عن خطوط الثورة الملهمة والحالمة وكانت
قصيدته “أبو تمام وعروبة اليوم”، التي اختصر فيها ومن خلالها البردوني بعظمته الشعرية، تاريخ من المرارات والخيبات العربية واليمنية، وحاضرها المخزي مستخلصا العظات والعبر من قصص التآمر والفتوح والنصر والهزيمة في تاريخ العرب، و يضعها في سلتهُ الشعرية الرائعة المعنونة بـ”ابو تمام وعروبة اليوم”، فشتان بين عهدين وبين ماض وحاضر يختصران أمجاد وهزائم اللامة العربية.
اما صنعاء فقد قال عنها بمرارة لا زالت تتسلق وجداننا إلى اليوم مالم يقله غيره من الشعراء عن بؤسها وعذابها وواقع حالها، طالما و أننا لم ننزع منها هذه المعاناة وجذور الإمامة الخبيثة، التي تتجدد فينا بصيغ وأسماء ومراحل متعددة لكنها تنتمي لذألك الواقع القهري المخيف.
حـبيب وافـيت من صنعاء يحملني
نـسر وخـلف ضلوعي يلهث العرب
مـاذا أحـدث عـن صـنعاء يا أبتي؟
مـليحة عـاشقاها: الـسل والـجرب
مـاتت بصندوق وضـاح بلا ثمن
ولـم يمت في حشاها العشق والطرب
كـانت تـراقب صبح البعث فانبعثت
فـي الـحلم ثـم ارتمت تغفو وترتقب
لـكنها رغـم بـخل الغيث ما برحت
حبلى وفي بطنها (قحطان) أو(كرب)
وفـي أسـى مـقلتيها يـغتلي (يمن
ثـان كـحلم الـصبا… ينأى ويقترب
حـبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شـبابة فـي شـفاه الـريح تـنتحب
كـانت بـلادك (رحلاً)، ظهر ناجية
أمـا بـلادي فـلا ظـهر ولا غـبب
أرعـيت كـل جـديب لـحم راحـلة
كـانت رعـته ومـاء الروض ينسكب
ورحـت مـن سـفر مضن إلى سفر
أضـنى لأن طـريق الـراحة التعب
انتهى
د.لمياء الكندي