.
المحرر السياسي /سما نيوز

اليمن، اليوم، ليس دولة صراع محلي، بل هو مسرح لعملية “تجزئة المُجزَّأ وتقسيم المُقسَّم” تُدار بالوكالة. لقد تحولت الدولة، بموقعها الاستراتيجي الحاسم، إلى رقعة شطرنج حيث تتقاسم الأجندات الإقليمية المصير اليمني وتستغل الانهيار الداخلي لترسيخ النفوذ، في مشهد يجسد المقولة القاسية: “مصائب قوم عند قوم فوائد”.
أولاً: اليمن كـ “بؤرة استنزاف” ومفتاح للسيطرة على شبه الجزيرة العربية
لا يمكن قراءة المشهد اليمني بمعزل عن موقعه المطل على أهم ممرات التجارة العالمية. الصراع المشتعل ليس صراعاً على السلطة في صنعاء وعدن بقدر ما هو تنافس بين الشرق والغرب على النفوذ الدائم.
يشير التحليل إلى أن القوى الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا، تسعى لتحقيق هدف استراتيجي رئيسي: خلق فاصل يعزل “التمدد الشرقي” (المشاريع غير الموالية للغرب).
في هذا السياق، تظهر مصلحة الدول الكبرى المتدخلة في أن تكون هناك قوة إقليمية كبرى بمثابة “دولة عازلة” تسيطر على مجمل شبه الجزيرة العربية. السبب الجوهري لذلك هو ضمان مصالح الدول الكبرى من خلال حليف إقليمي قادر على حماية هذه المصالح، والتي تتركز في تأمين الطاقة والممرات البحرية. هذا المشروع يهدف أيضاً إلى قطع النفوذ الشرقي والتمدد الاقتصادي الصيني المتزايد في المنطقة.
ولأن دول الخليج هي حليف استراتيجي أساسي للدول الغربية الكبرى، فإن الصراعات السعودية-الإماراتية التي يظهرها الإعلام هي صراعات شكلية أو تكتيكية سرعان ما تختفي؛ كون الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بالذات تتحكمان بالخطوط العريضة لسياسات هذه الدول الواقعة في شبه الجزيرة العربية. هذا الهدف لن يتحقق إلا بإيصال اليمن إلى حالة من التفكك تضمن قبول أي مشروع إنقاذ مستقبلي، مهما كانت طبيعته، كـ “شرّ لا بد منه” ينهي سنوات الفوضى.
هذا التفكك، المدعوم بتداخلات أيديولوجية ومذهبية مرتبطة بجغرافية المنطقة، أعاد اليمن إلى زمن الدويلات المتناحرة على الملك، وحوّل المشاريع التي رفعت يافطة “الوطنية” إلى “عصابات نهب” تخدم الأجندات الخارجية.
ثانياً: جذور الكارثة: أبعاد التشظي الذهني والبنيوي
إن قدرة القوى الإقليمية على الاستحواذ لا تنبع من قوتها وحدها، بل من هشاشة البنية الداخلية لليمن. هذه الهشاشة هي نتاج أزمة أعمق من مجرد الحرب، وهي أزمة ذات أبعاد بنيوية وذهنية تلخصها النقاط التالية:
- أزمة الهوية الاقتصادية: يكمن الخلل في نقطة تقاطع خطرة؛ فاليمن ورث إرثاً شبه اشتراكي ألغى روح المبادرة، مضافاً إليه وهم ريعي زائف نابع من محاكاة الدول النفطية دون امتلاك مقوماتها. هذا المزيج أفرز هشاشة مزدوجة: موظف ينتظر راتباً قد لا يأتي، ومجتمع عاجز عن الإنتاج الذاتي.
- ثقافة التبعية والذهنية الريعية: تحوّل المواطن من فاعل ومساهم في الإنتاج إلى متلقٍ سلبي ينتظر المساعدات والأوامر. هذا التآكل للثقة بالنفس رسّخ ثقافة التبعية وأضعف الحس المدني، وجعل المواطن يرى الدولة باعتبارها “المعيل” لا الإطار الجامع، وهي ذهنية عبّر عنها “ببلوي” بأن الدولة الريعية “تشتري السكون لكنها لا تبني استقراراً”.
- اقتصاد طفيلي ومرهون: الاقتصاد اليمني أصبح مرهوناً بالتحويلات والمساعدات الخارجية (ريع واسع) التي تُصرف في الاستهلاك وتترك البلاد أسيرة الجمود والارتهان. وقد زاد الطين بلة بروز اقتصاد الحرب الموازي، الذي تغذيه شبكات مصالح التجار الطفيليين، مما يعزز اقتصاد الظل ويحول دون أي أفق للإصلاح.
ثالثاً: عمليات “سلخ” البقرة اليمنية والاستغلال الإقليمي
أصبحت الأراضي اليمنية “بقرة قابلة للسلخ”، حيث تتسابق دول الإقليم على التهام ما يمكن التهامه، مستغلة الانهيار المعيشي:
- الرهان على الجوع والانهيار المعيشي: إن الانهيار الكارثي للوضع المعيشي، الذي دمرته الصراعات السياسية وفشل الأنظمة المتعاقبة، يمثل عاملاً مساعداً حاسماً يسهل تغلغل النفوذ الخارجي. فالحاجة الماسة إلى الاستقرار المالي تجعل المشاريع الإقليمية محط قبول، حيث تدفع الرواتب لمئات الآلاف من الجنود بالعملة السعودية، مما يجعل التحكم في القرار العسكري والاقتصادي أمراً يسيراً. هذا الاستنزاف المعيشي يخدم بشكل مباشر خطة المملكة للسيطرة على جنوب اليمن بشكل كامل، وذلك عبر ترتيبات تضمن للقوى المحلية (المشايخ والتجار والوكلاء) تمرير هذا المشروع مقابل ضمان مصالحهم.
- السيطرة عبر التجار والمشايخ: تعتمد المملكة على النفوذ الاقتصادي والاجتماعي العميق. فقد استطاعت أن تحتل السوق اليمنية بشكل عميق عبر شبكة واسعة من التجار الجنوبيين الكبار كوكلاء للسيطرة على خطوط الاستيراد. كما تعتمد على مشايخ القبائل ومشايخ الدين في الشمال والجنوب، لضمان الولاء الاجتماعي والقبلي، وتوفير غطاء أيديولوجي (عبر الوهابية) يمتلك قوة تنظيمية ومالية.
هذا التحكم المزدوج، العسكري والاقتصادي والاجتماعي، يجعل المملكة العربية السعودية تتحكم في الشمال والجنوب عبر وكلائها المحليين.
رابعاً: سؤال الضم والتحول الجغرافي
يثير التوغل السعودي سؤالاً وجودياً: هل تستطيع السعودية ضم الأراضي اليمنية كلها إليها؟
رغم أن المشروع الإيراني في الشمال يمثل عقبة حالية، إلا أن القدرات السعودية قد تكون أكبر في إحداث تغيير شامل، خاصة إن كانت الدول الكبرى خلف المشروع السعودي وتدفع به كجزء من استراتيجية أوسع لضمان نفوذ الحليف القادر في شبه الجزيرة العربية. هذا السؤال يجد إجابته لدى بعض القيادات الجنوبية؛ حيث صرّح نجل الرئيس الجنوبي السابق (علي سالم البيض)، عمرو البيض، بأن محافظات مثل حضرموت أقرب ثقافياً واجتماعياً إلى الخليج والسعودية منها إلى اليمن. هذا الشعور لا يقتصر على حضرموت، بل قد يمتد لأغلب المحافظات الجنوبية ومأرب، حيث قد تفضل الأغلبية الانضمام إلى مشروع سعودي مستقر، بدلاً من الدوران في حلقة الصراع الداخلي.
في المقابل، يظل المشروع الإماراتي حاضراً، لكنه يركز بشكل أكبر على السيطرة على الموانئ الاستراتيجية والمواقع البحرية، بينما يتجه النفوذ السعودي للاستحواذ على السلطة اليمنية والسيطرة على الأرض.














