ثمة بحيرة عميقة في أفريقيا الوسطى تضافرت فيها العوامل لتصبح عرضة للانفجار، لكن الاستفادة من هذه البحيرة كمصدر للطاقة قد يحول دون وقوع كارثة.
تعد بحيرة كيفو واحدة من أغرب المسطحات المائية في أفريقيا، فهذه البحيرة تتميز بمجموعة استثنائية من الخصائص التي حار في تفسيرها العلماء، فضلا عن أنها مصدر كامن للخطر والرخاء في آن واحد لملايين الناس الذين يعيشون بالقرب منها.
وتختلف بحيرة كيفو عن غيرها من البحيرات العميقة. فعندما تبرد المياه على سطح البحيرات، سواء بسبب انخفاض درجة حرارة الهواء في فصل الشتاء أو بسبب الجليد الذائب الذي تحمله الأنهار في فصل الربيع، تهبط المياه الباردة الكثيفة لأسفل بينما تصعد المياه الأكثر دفئا والأقل كثافة لأعلى. وتعرف هذه العملية باسم “الحمل الحراري”، وبسببها تظل المياه في الطبقات السطحية من البحيرات العميقة أكثر دفئا منها في أعماقها.
لكن في بحيرة كيفو، تضافرت عوامل عديدة لتمنع حدوث هذا الخلط بين الطبقات، ومن ثم أكسبت البحيرة خصائص غير متوقعة، وكان لها تبعات مذهلة.
وتعد بحيرة كيفو، التي تمتد على الحدود بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقرايطة، واحدة من مجموعة بحيرات في الوادي المتصدع الكبير شرق أفريقيا، حيث تنقسم القارة الأفريقية ببطء إلى شطرين بفعل حركة الصفائح التكتونية.
وقد أدت الضغوط الناتجة عن هذه التحركات إلى ترقيق القشرة الأرضية ومن ثم إثارة نشاط بركاني، تولدت عنه ينابيع ساخنة أسفل بحيرة كيفو، لتغذي الطبقات السفلى من البحيرة بالمياه الساخنة وثاني أكسيد الكربون والميثان.
وتستفيد الكائنات الدقيقة من بعض ثاني أكسيد الكربون وكذلك المواد العضوية التي تهبط إلى قاع البحيرة، في توليد الطاقة ومن ثم تنتج كميات إضافية من الميثان. لكن بدلا من أن تخرج هذه الغازات في صورة فقاعات من المياه كما هو الحال في سائر البحيرات، فإن الضغط الشديد الناتج عن عمق بحيرة كيفو، التي يتجاوز عمقها 460 مترا، يحبس الغازات الذائبة في الطبقات السفلية.
وهذا الخليط من المياه والغازات الذائبة يكون أكثر كثافة بالطبع من المياه بمفردها، وهذا يمنعها من الصعود لأعلى. وترتفع أيضا نسبة الملوحة في المياه العميقة بسبب الرواسب التي تسقط من الطبقات العليا من البحيرة ومن المعادن التي تطلقها الينابيع الساخنة، وهذا أيضا يزيد من كثافة طبقات المياه العميقة.
ويقول سيرجي كاستيف، عالم بيولوجيا المياه العذبة بجامعة مينيسوتا، إن المحصلة أن البحيرة أصبحت مكونة من طبقات عديدة متفاوتة الكثافة، ولا تفصل بينها سوى طبقات انتقالية رقيقة.
ويقول ألفريد فوست، عالم فيزياء مائية بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان، إن البحيرة تنقسم إلى طبقتين رئيسيتين، الأولى من المياه السطحية الأقل كثافة حتى عمق نحو 60 مترا، والثانية من المياه المالحة الكثيفة، وتنقسم هذه الطبقة إلى طبقات متعددة. وبينما تختلط المياه في كل طبقة من الطبقات، فإن الطبقات نفسها لا تتداخل مع بعضها.
لكن بحيرة كيفو ليست مثار فضول للعلماء فحسب، بل إن انفصال طبقاتها غير المعتاد ومستويات ثاني أكسيد الكربون والميثان المختزنة في طبقاتها السفلية أثارا مخاوف الباحثين ووصفوها بأنها كارثة على وشك الوقوع.
خطر محدق
على بعد نحو 1,400 ميل من بحيرة كيفو، تقع بحيرة نيوس البركانية في الكاميرون، وتتراكم فيها أيضا كميات كبيرة من الغازات الذائبة، أو بالأحرى غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي تطلقه فتحات البركان عند قاع البحيرة.
وفي أغسطس/آب 1986، تسبب مخزون الغاز في بحيرة نيوس في كارثة مميتة. ويرجع العلماء ذلك إلى انهيار أرضي، تسبب في تحريك كميات كبيرة من المياه فجأة في البحيرة ومن ثم اختلط غاز ثاني أكسيد الكربون الذائب بسرعة مع الطبقات العليا من البحيرة وانطلق في الهواء. وتكونت سحابة ضخمة من الغاز فوق البحيرة أدت إلى اختناق نحو 1,800 شخص في القرى المجاورة.
ويطلق على هذه الظاهرة اسم انفجار البحيرات، ويخشى العلماء من أن تكون الظروف مهياة لبحيرة كيفو للتسبب في كارثة مشابهة لكارثة نيوس، أو ربما أكثر فتكا منها.
ومقارنة ببحيرة نيوس التي يتجاوز طولها ميلا بقليل، وعرضها أقل من ميل، وعمقها 210 أمتار، فإن بحيرة كيفو طولها 55 ميلا وعرضها يصل إلى 30 ميلا، وعمقها يفوق ضعف عمق بحيرة نيوس.
ولهذا يقول كاتسيف: “إن انطلاق الغاز من بحيرة كيفو، بحكم حجمها، قد يكون كارثيا، فقد يطلق عدة أميال مكعبة من الغاز”.
وعندما حدث انفجار بحيرة نيوس، كان يعيش بالقرب من البحيرة نحو 14,000 شخص فقط، لكن اليوم، يعيش بالقرب من بحيرة كيفو أكثر من مليوني نسمة، نصفهم تقريبا في مدينة بوكافو في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وقد عثر العلماء على أدلة تؤكد حدوث انفجار سابق واحد على الأقل في بحيرة كيفو من المرجح أنه وقع منذ ما يتراوح بين 3,500 و5,000 عام، وربما حدثت انفجارات عديدة بعده. وكشفت عينات الرواسب التي جمعت من قاع البحيرة عن وجود سمات تعرف باسم الطبقات البنية التي تختلف عن الرواسب المحيطة.
ويصف كاتسيف هذه الرواسب بأنها “طبقات غير معتادة وغنية بالمواد العضوية”، ربما لأنها نتجت عن انفجارات سابقة.
وقد تحدث هذه الانفجارات في البحيرات لسببين، أولهما، أن المياه إذا أصبحت مشبعة تماما بالغازات الذائبة، فإن أي كميات إضافية من غاز ثاني أكسيد الكربون أو الميثان تضخ في البحيرة ستصعد إلى أعلى وتنطلق في الهواء. وقد تحدث الانفجارات أيضا إذا اختلطت الطبقات العميقة التي تحتوي على غازات ذائبة مع الطبقات العلوية، بفعل تأثير خارجي ما، وبذلك سيقل الضغط على الغازات وتنطلق إلى الخارج، تماما كفوران علبة المشروبات الغازية عند فتحها بعد رجها.
ومن المستبعد أن يتسبب انهيار أرضي، بحجم الانهيار الذي أدى إلى انفجار بحيرة نيوس، في خلط الطبقات ببحيرة كيفو بما يكفي لاطلاق الغازات، نظرا لحجمها وعمقها الكبير، لكن هناك مسببات أخرى عديدة للانفجار. إذ تقع كيفو في بؤرة زلزالية نشطة، وقد يؤدي وقوع زلزال إلى توليد أمواج في البحيرة، ومن ثم قد تحدث عملية خلط عمودي بين الطبقات تكون كفيلة بإطلاق الغازات المختزنة في المياه.
وأشار العلماء بأصابع الاتهام إلى المناخ أيضا. فقد اكتشف انفجار واحد على الأقل في طبقات الرواسب المستخرجة من البحيرة، تبين أنه حدث بسبب موجة جفاف أدت إلى تبخر كميات كبيرة من الطبقة السطحية من البحيرة، وبذلك خففت الضغط على الطبقات السفلية وانطلقت الغازات الذائبة.
وترى سالي ماكينتاير، عالمة بيولوجيا المياه العذبة بجامعة كاليفورنيا، أن انخفاض منسوب المياه في البحيرة في مواسم الجفاف قد يجعلها أكثر عرضة للاضطرابات والخلط في حالة هطول أمطار غزيرة. وذلك لأن الأمطار قد تجرف الرواسب المتراكمة من روافد البحيرة العديدة وتؤدي إلى خلط الطبقات.
وقد تزيد فرص هذا التسلسل للأحداث كلما ارتفعت درجات حرارة الأرض، فمن المتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة وتيرة هطول الأمطار على شرق أفريقيا. وتقول ماكينتاير: “ستهطل أمطار غزيرة وستتخللها فترات أطول من الجفاف”.
ومن المحتمل أيضا أن يؤدي نشاط بركاني من أسفل البحيرة أو من البراكين المجاورة إلى انطلاق الغازات من البحيرة، وإن كان هذا الخطر طفيفا. فعندما ثار بركان جبل نييراغونغو المجاور عام 2002، لم تتدفق كميات كافية من الصهير البركاني لتحريك الطبقات السفلية من بحيرة كيفو.
لكن مهما اختلفت الأسباب، فإن الأثر واحد، حيث ستحرر الغازات المتراكمة الذائبة في المياه وتشكل سحبا كثيفة من غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، وكما حدث مع بحيرة نيوس، سيحل ثاني أكسيد الكربون محل الأكسجين ويؤدي إلى اختناقات جماعية. وإذا انطلقت أيضا كميات كبيرة من الميثان في الهواء من بحيرة كيفو، فقد يشتعل الميثان عندما يتعرض للهواء.
ويقول كاتسيف إن البحيرة تخضع للرقابة المتواصلة للكشف عن أي ارتفاع طفيف في تركيز الغاز. ويوجد أكثر من 12 محطة رصد زلازل لقياس أي نشاط بالقرب من البحيرة وقت حدوثه. وفي عام 2001، وُضع أنبوب في بحيرة نيوس لسحب المياه من أعماق البحيرة وضخها إلى أعلى، وبهذا تطلق المياه المندفعة من قمة الأنبوب غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء بكميات آمنة. ويجري تنفيذ جهود مشابهة في بحيرة كيفو للحد من مخاطر وقوع كارثة أخرى.
التعدين في الأعماق
وكلما زاد تركيز الغازات في أعماق بحيرة كيفو، زادت المخاطر. واكتشف فوست وزملاؤه أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في البحيرة ارتفع من عام 1974 إلى عام 2004 بنسبة 10 في المئة، لكن تركيز الميثان في البحيرة ارتفع في الفترة نفسها بنسبة تتراوح من 15 إلى 20 في المئة.
لكن ربما هناك طرق لترويض هذه المخاطر التي تنطوي عليها بحيرة كيفو. فقد يصبح الغاز الذي قد يكون وقودا لكارثة طبيعية مدمرة، مصدرا للطاقة في المنطقة. وفي عام 2008، دشنت رواندا برنامجا تجريبيا لاستخلاص الميثان من البحيرة لاستخدامه كغاز طبيعي، ووقّعت العام الماضي عقدا لتصدير الميثان المعبأ في قوارير إلى الخارج. وفي عام 2015، دُشن برنامج “كيفو وات” لتوليد الطاقة من الميثان المستخلص من البحيرة.
وتضخ هذه المشروعات المياه من الطبقات السفلية من البحيرة، وعندما يُخفف الضغط على المياه، تنطلق الغازات إلى الجو. ثم يُستخلص الميثان ليستخدم كوقود، بينما يضخ ثاني أكسيد الكربون إلى قاع البحيرة مرة أخرى. ويقول كاتسيف: “تحصل الشركات على هذا الغاز وتشحنه عبر خط أنابيب على اليابسة وتحرقه كما يُحرق الوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء”.
وقد يصبح الغاز المستخرج من البحيرة مصدرا مهما للطاقة في المجتمعات التي تعيش بالقرب من البحيرة. ومن شأن برنامج “كيفو وات”، الذي من المتوقع بعد اكتماله أن يولد 100 ميغاوات من الكهرباء، أن يغير حياة سكان رواندا، التي لا يحصل فيها على الكهرباء سوى 35 في المئة من السكان.
صحيح أن استخلاص الغازات من بحيرة كيفو قد يسهم في الحد من مخاطر انطلاق الغاز الذائب في الطبقات السفلية من البحيرة، لكنه لن يستأصل أسبابه تماما. غير أن أي جهود تبذل لتقليل المخاطر في بحيرة توشك على الانفجار، تمثل خطوة إيجابية للسكان في المنطقة.