
النفوس النقية لا تثقلها الأحقاد ولا تُستدرج إلى دوامة الخصومات، بل تمضي في الحياة خفيفة الروح راسخة المبدأ لا تلتفت إلى سفاسف الأمور ولا تجعل انشغالها برد الإساءة يعطل مسيرتها فالإنسان العظيم لا يحتاج إلى مجاراة السيئين ليشعر بالقوة، بل تكمن عزته في قدرته على السمو فوق التفاهات والإعراض عما لا يستحق الوقوف عنده.
ليس كل صراع يُخاض ولا كل إساءة تستوجب الرد فالحكيم يزن مواقفه بميزان التعقل لا باندفاع العاطفة، يدرك أن الانشغال بما لا ينفع يستهلك الطاقات، وأن المجد الحقيقي يُبنى بالحكمة والثبات لا بالمشاحنات وردود الأفعال المتسرعة، كثيرون ظنوا أن الهيبة تُنال بكثرة الجدال وأن الصمت ضعف لكن الأيام أثبتت أن من يحكم نفسه هو الأشد بأساً، وأن من يضبط انفعالاته هو الأقوى في أي ميدان.
كم من خصومة انتهت بكلمة طيبة وكم من عداء تلاشى أمام موقف نبيل، الناس لا يُخضعهم العنف لكنهم يبهتون أمام سموّ الأخلاق، ولا يستسلمون للغضب لكنهم ينكسرون أمام الرحمة حين تأتي في غير موضعها المتوقع، فمن أراد العظمة فليتعلم كيف يمضي كيف يسمو وكيف يتجاوز لا عن ضعف بل عن دراية بأن الانشغال بالأفضل أولى من استنزاف العمر فيما لا يجدي.
لكن العفو الذي يُذلّ صاحبه ليس كرماً، والصبر الذي يُهدر الحقوق ليس فضيلة، والحكمة ليست في الصمت الدائم بل في معرفة متى يكون التسامح رفعة ومتى يكون الحزم ضرورة، فمن لم يكن شامخ النفس ستكسره الأيام، ومن لم يحمل في روحه ضياء الحلم ستبتلعه متاهات النزاعات.
امضوا في دروبكم أعزاء لا تهزمكم التوافه ولا تستنزفكم الأحقاد ولا تعطل مسيرتكم المعارك التي لا تُكسبكم مجداً ولا تحفظ لكم عزاً، فالشمس لا يُطفئها نفس الحاسد والجبال لا تُزحزحها رياح الحاقد. رزقكم الله بصراً يرى الحقيقة من وراء العواطف وعقلاً يفرق بين الحلم الذي يرفع والهوان الذي يُذل وقلباً لا يتكدر بصغائر الدنيا بل يسمو بما يليق بالأحرار.