
لعل في سردية الليلة توضيحا مبينا للمنافقين من أمتنا ، ومن اقتفى أثرهم من الجهلة والسذج وبادي الرأي ، وذلك بالنظر إلى ماورد في القرآن الكريم من الآيات التي تناولت المنافقين ؛ إذ وصفتهم وصفا دقيقا من خلال أقوالهم ، وأفعالهم ، وتوليهم يوم الزحف ، وإدبارهم عند لقاء الأعداء ، وبث الإشاعات بين صفوف المؤمنين ، ودعوة السذج والمغفلين للتخلف عن المجاهدين ؛ تحت مسوغ حمايتهم من الموت . والتاريخ الإسلامي حافل بمثل مانراه اليوم ، بل نجد المشاهد التي سلكها المنافقون في جيش رسول الله ، وحاضنته ، ومجتمعه الذي يلتقي معه في اللغة ، والدم ، والدين نفاقا ، قبل 1400 عام للهجرة ، تتكرر اليوم قولا وفعلا وسلوكا .
ومن الأمثلة على ذلك ؛ معركة أحد ، إذ استطاع المنافقون أن يسلخوا العدد الأكبر من جيش محمد ، ويقنعوهم بالعودة إلى المدينة ، وعدم المشاركة في القتال مع محمد وماتبقى من جيشه ، إذ واجه جيش المشركين بقيادة أبي سفيان . وفي غزوة تبوك حاول المنافقون تثبيط الهمم في أوساط جيش محمد ، وتمكنوا من إقناع أعداد منهم بالتولي عن الزحف ، والعودة إلى المدينة ؛ لكي لايصيبهم الموت ؛ الأمر الذي جعل الله يبين لأولئك المنافقين أن من كتب عليهم الموت لن يستطيعوا النجاة منه وإن كانوا في بروج مشيدة .
علما بأن النصر في أدبيات الإسلام غير معقود بكثرة عدد المقاتلين ، ولا بتفوقهم في العتاد ، ولكن النصر من عند الله ؛ ولنا في معركة بدر خير شاهد ، إذ انتصر رسول الله نصرا مبينا ، وعدد جيشه 314 جنديا ، الفرسان منهم لايتجاوزون عدد أصابع اليد ، وكان عدد جيش المشركين أكثر من 950 فارسا ، وهذا يعني أن جيش المشركين كلهم فرسان . وفي يوم حنين هزم جيش المسلمين ، وتقهقر عن الزحف أمام المقاتلين المشركين ، مع كثرتهم في العدد وتفوقهم في العتاد ، لولا ثبات رسول الله الأسطوري ، ومقارعته المشركين حتى عاد الجيش يتجمع ويحتشد حوله ، بعد ما أصابه من التمزق والشتات .
أما في الراهن من تاريخنا المعاصر فقد هزمت جيوش الأمة العربية مجتمعة ، في أكثر من موقعة ، وغير واحد من ميادين النزال ، أمام طلائع العصابات الصهيونية التي قام الغرب الصليبي بتجميعها ودعمها ، ثم إرسالها لاحتلال فلسطين قلب الأمة النابض ، وقبلتها الأولى ، ومسرى نبيها الأعظم . وهنا ربما يسأل القارئ عن الأسباب الرئيسة التي أدت إلى النكبات والانتكاسات المتتالية لجيوش الأمة مع أنها تفوق أعداد جيش العدو الصهيوني من حيث الكثرة ، وتحيط بالعدو من الجهات كلها جغرافيا ، فضلا عن أنها صاحبة الحق الشرعي والقانوني والأخلاقي في امتلاك فلسطين برا وبحرا وجوا ؛ لأن الأرض أرضها ، والساكنين الأصليين المالكين لفلسطين من أبد الآبدين ، هم منها ؛ دينهم الإسلام ، لغتهم العربية ، فضلا عن واحدية الثقافة والهوية ؟
نقول للقارئ الكريم : لعل من أهم الأسباب ما يلي : كثرة المنافقين في راهننا ، إذ أصبحت أعداد المنافقين تفوق أعداد أسلافهم بكثير ، بل أضحى المنافق اليوم أكثر من سلفه في الزمن الغابر حقدا وخبثا ولؤما ومكرا وخداعا . كذلك جندت الامبراطوريات الغربية امكانياتها الاستعمارية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية والعسكرية للعبث في أوساط الأمة حتى استلحقت أكثر من ثلثين منها بالقطار الصهيوني ؛ إذ لم يعد الكثير من قيادات الصف الأول ، وعلماء الإسلام ، والنخب المثقفة ، وكم كبير جدا من العامة والبسطاء والسفهاء والإمعات والأغبياء يستطيعون التمييز بين الحق وبين الباطل ، بين المسلم وبين الكافر ، بين المؤمن المجاهد وبين المنافق ، بين الخصم القريب وبين العدو البعيد ، بين الجار المسلم وبين الصهيوني الطاغوت ، بين رب الأرض وبين المغتصب ، بين من يقاوم لاستعادة حقه وبين من يقتل ويدمر ويهجر لاغتصاب حقوق الآخرين . وهنا يكمن الخطب العظيم ، والمصيبة القاصمة .